
قراءة بصرية في المعلقة الرسمية للدورة 44 من مهرجان القصرين الدولي
بعيدا عن نسائم البحر، وفي مواجهة صيف قائظ شديد الحرارة وفضاءات ترفيهية عائلية شبه منعدمة، لا تجد القصرين ملاذًا أجمل من مهرجانها الصيفي تكسر بها صمت المكان ورتابة الأيام إذ تتحوّل هذه التظاهرة الثقافية إلى لحظة انتصار للجمال على القسوة وللفن على العزلة ويجد المواطن متنفسا ينعش الروح ويجدّد الصلة بالحياة من خلال عروض تمنح الصيف معنى مختلفا. وككل سنة يطل مهرجان القصرين الدولي يحمل معه وجبة ثقافية متنوعة تستجيب لمختلف الأذواق وتمنح جمهور الجهة فسحة من الفرح من خلال برمجة فنية تجمع بين المسرح والموسيقى والعروض الفرجوية.
وبعيدا عن تقييم الدورة 43 التي خيّبت آمال الكثيرين وكانت – في نظر عديد المتابعين – الأضعف من حيث التنظيم والبرمجة والخطاب والتسويق والتواصل منذ سنوات ، وهي دورة آثرنا عدم الكتابة حولها تعففا عن رد الإساءة بمثلها ، وامتنعنا عن مواكبة عروضها احتراما لتاريخ المهرجان وجمهوره ، يأتي اليوم مهرجان القصرين الدولي في دورته 44 ليعيد بناء جسور الثقة مع جمعية خطوة ، الجمعية الشابة التي كانت وراء نجاح الدورة 42 ، ويستأنف المسار بما يليق بعراقة التظاهرة وانتظارات الجمهور، عبر مضامين فنية متنوعة ورؤية تنظيمية أكثر وعيا بأهمية المرحلة ودورها في إشعاع الثقافة بالجهة. وفي انتظار الكشف النهائي عن برنامج هذه الدورة خلال الندوة الصحفية المزمع عقدها في المنتصف الثاني من شهر جويلية الحالي نشرت الهيئة المديرة للمهرجان المعلقة الرسمية التي جاءت هذه السنة مختلفة من حيث الهوية البصرية والمضامين عن سابقاتها ، تحمل أبعادا جمالية ورمزية يتوسطها ضريح "فلافيوس" الأثري، أحد أبرز معالم القصرين الرومانية تم تصويره من زاوية سفلية تعطيه هيبة وتضخيما بصريا يوحي بأن المهرجان يستمدّ قوّته من جهة ضاربة في أعماق التاريخ والحضارة الإنسانية تسبح الخلفية في لون أزرق سماوي نقي، يوحي بالامتداد والانفتاح الذي يعزز أفق المهرجان الطامح نحو العالمية.
وقد كتبت العناوين بثلاث لغات: العربية والفرنسية والأمازيغية في دلالة على التعدد الثقافي والانفتاح على الموروث الأمازيغي والبعد المتوسطي والعالمي. أما اللون البرتقالي الذي اعتمد لكتابة "الدورة" ورقمها، فيضفي دفئا وطاقة يوحيان بالتجدد والاستمرارية فيما يضفي تحليق الطيور في السماء لمسة شاعرية على المشهد، وكأنها ترمز إلى حرية الإبداع. ولايفوتني في سياق عرض هذه القراءة البصرية لمعلقة مهرجان القصرين، أن أعرج لمسألة لفتت انتباهي منذ اللحظات الأولى للكشف عنها وهي أوجه الشبه والتخاطر بينها وبين تلك التي عرضتها الهيئة المديرة للدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي إذ لا تقدم المعلقتان مجرد إعلان بل تعرضان فكرة وسردا بصريا لهوية كل منهما. ففي معلقة مهرجان القصرين، يقف ضريح فلافيوس شامخا في واجهة الصورة، ورمزا صامتا لذاكرة حضارية ضاربة في الجذور محاطا بزرقة سماء تفيض انفتاحا ورحابة في حين تقف امرأة بلباس تاريخي تتأمل الأفق البحري من تحت قوس أثري في مشهد يفيض شاعرية ويختزل روح قرطاج التاريخ والأسطورة في معلقة مهرجانها الألوان في كليهما تنحو إلى التوازن بين الدفء والتراب (البني، الذهبي، الأحمر) والبرودة والامتداد (الأزرق السماوي أو البحري) في تشكيل بصري يزاوج بين الصلابة والانفتاح.
أما النصوص، فقد كتبت بلغتين رسميتين، العربية والفرنسية، في تأكيد على الثنائية الثقافية والانفتاح مع إضافة لمسة أمازيغية في تشير إلى الجذور الأصلية لسكان البلاد . كما تعكس المعلقتان فلسفة بصرية قوامها الانتماء، والجمال، والامتداد الزمني. فمهرجان القصرين يستمد مشروعيته من الأرض والذاكرة، ومهرجان قرطاج من البحر والأسطورة. وكلاهما يخطّ على صفحة الزمن فعلا ثقافيا يُزاوج بين الماضي المجيد والحاضر الخلاق. وفي انتظار استكمال معلقة القصرين بتحديد تاريخي الافتتاح والاختتام وشعارات الأطراف الشريكة والداعمة نعتقد أننا إزاء ومضة جاذبة تبشر بوجبة ثقافية متنوعة تطبخ على مهل بحرفية وذوق لمسناهما خلال الدورة 42 وننتظر تأكيدهما خلال الدورة الحالية .
لطفي هرماسي