القصرين : مجلس الشيوخ … لا يغيب حتى في زمن الكورونا

365 vues


هم مجموعة من الشيوخ والكهول والمتقاعدين الذين عملوا سابقا بقطاعات مختلفة ( معمل عجين الحلفاء والورق بالقصرين / ديوان الأراضي الدولية / شركة السكك الحديدية / الشركة الجهوية للنقل / التاكسيات / الوظيفة العمومية ….) يتفيئون كل يوم وعلى امتداد شهر الصيام ظلال حديقة الشهداء وسط مدينة القصرين ، يفترشون العشب ، او الورق المقوى ، ومنهم من يجلب معه كرسيا بلاستيكيا ، أو يستند إلى شجرة صنوبر تنتصب شامخة وسط الساحة … يمضون صباحاتهم في الحديث عن رمضان الزمان الجميل واجوائه ومناخاته ، يقصون حكايا وغزوات الفراشيش واولاد عسكر والهمامة وبني زيد وجلاص وأولاد عيار والمثاليث واولاد سعيد وغيرهم ، يروون قصص القرآن بأبلغ التعابير والمفردات ويستشهد بعضهم بمحكم الآيات في مواضعها ، وسياقاتها ، لايساورهم لحن ولا دخن .
مجلس الشيوخ ، ينتصب يوميا انطلاقا من الساعة الثامنة والنصف صباحا ، ليبلغ أوج ألقه وتوهجه على الساعة العاشرة ويتواصل حتى ينفضّ في منتصف النهار ، يتبارى الجلساء خلاله في سرد الاحاجي التي تبدأ عادة بشخصية ب: ” عبد الصمد قال كلمات ” وعبد الصمد شخصية اشتهرت بالأحاجي واحكام نظمها و ضبط شروطها و قيل انه ” عبد الصمد الشابي” من احفاد الشيخ “عرفة الشابي” الذي عاش بمدينة القيروان و استقر في أواخر عهد الدولة الحفصية بالحاضرة . أما عبد الصمد هذا ، فقد مال الى حياة البداوة فتصدر مجالس القبائل و تولى امرها بفضل حكمته وحسن نظمه للحكم والأحاجي حتى ذاع صيته ونسبت اليه العامة هذا اللون من الادب… و كثر في اول احاجيهم قولهم : ” عبد الصمد قال كلمات ووصفوا كل احجية متينة التركيب تامة الشروط بانها ” صمدية ” عبد الصمد قال كلمات ، واسمعوا يا شهودي …. بعيني ريت الغربال هاز الماء ، وكان كذبت قصوا زنودي ( شهد العسل ) عبد الصمد قال كلمات واسمعوا يا حاضرين .. على صياد خرج للمصيد .. إذا صاد صاد أربعة ، وإذا خطا خطا اثنين ( صلاة الجمعة ) يبتسم الواحد منهم ابتسامة متحدية ساخرة و «يعنقر » الكبوس او المظلة كلما تمكن من تعجيز الجلساء والمريدين والمارة ،ويمتعض كلما تبين له أن احجيته سهلة يسيرة في متناول من حاوره من الخبراء والمارة أو انهم قد سمعوها من غيره سابقا وأفسدوا عليه نشوة انتصاره عليهم وفرحته بانكسارهم أمام تحديه لهم .
يتحدثون بنبرة فيها كثير من الحسرة ، حسرة عن حياة امضوها بالطول والعرض في الكدح والسعي على العيال وعن احبة فارقوا الحياة مخلفين وراءهم قصصا وذكريات عجيبة لاتتكرر. مجلس الشيوخ لا تفوته شاردة ولا واردة في علاقة بأحداث الساعة يروونها بمعجمهم اللغوي الفريد الذي لا يتخلون عنه وكثيرا ما تتعالى بينهم الأصوات ويكثر فيهم العناد والتمسك بالرأي لأن كل واحد منهم يعتقد انه يمتلك الحقائق المطلقة التي لا يساوره فيها شك .
سألت أحدهم عن سر انجذابه ومواظبته على المجلس فأجاب :
” منذ اليوم الأول من رمضان ، وأنا مواظب على حضور مجلس الشيوخ .. أقتني حاجياتي مبكرا وأحجز مكاني حتى أمضي الوقت مع رفاق الجلسة ، أستمتع بكل جوارحي لما يقولون ، دون أن أشارك في الحديث لأن ” الكبارات ” في هذا المجلس مثقفون ، ومطلعون أكثر مني ، ويكفي ان أجلس معهم حتى أتعلم منهم يوميا ..” أما عم صالح ( متقاعد من الشركة الجهوية للنقل بالقصرين ) فقال : ” آش عندنا نعملوا ؟ هانا نقصروا في الوقت … هي جلسة رائعة ، ولكنها للأسف قد لا تتواصل بعد شهر رمضان . “
هي جلسة يتمنى الواحد منا ان يجد سعة من الوقت حتى يستمتع من خلالها بالحكايا والاحاجي والجدل اللامتناهي الذي يدار بأسلوب ملؤه التحدي والكبرياء والغلو في الاعتزاز بالذات .. جلسة تغري المشتغلين في الحقل الإعلامي بتوثيقها صورة وصوتا .. ومن يدري لعلها تجد سينمائيا هاويا ينجز حولها شريطا قصيرا تلقائيا غنيا بالأحاديث والحوارات الساخنة الطريفة في قادم السنوات .
هي أيضا جلسة ألفناها منذ سنوات تزين وسط المدينة بطرافتها وأصالتها ، لم تغب هذه السنة أيضا في زمن الكورونا رغم انخفاض عدد المشاركين فيها نسبيا مقارنة بما مضى .

لطفي هرماسي